(درجات الوعي )
من منِّا يستطيع أن يحصي عدد المرات التي قرأ فيها سورة الفاتحة ؟ لا نستطيع لأننا نكررها يومياً على أقل تقدير سبعة عشر مرة في كل ركعة وهذه عدد ركعات الفروض فقط ، فكيف بالذي يصلى السنن والنوافل بل كيف بالذي يقيم الليل قد يتجاوز العدد عند هؤلاء إلى أكثر من مئة مرة .
ولكن السؤال : هل أدركنا معنى هذه السورة ؟ وهل نحن نسير في حياتنا على آثارها ؟ تعالوا لنتدبر آياتها آيةً آية فعندما نقول : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هل نحن فعلاً وحقيقة تخلصنا من الغفلة وبدأنا الدخول في الصلاة ؟ أقصد هل شعرنا بأنَّ البسملة هي مفتاح الدخول إلى الحضرة الربانية ؟ لأنَّ سورة الفاتحة تربوية إيمانية تتعلق بالربوبية بشكل عام ، فهل عندما نتلفظ بها في الصلاة فتحت قلوبنا لاستقبال الأنوار الربانية ؟ .
ثمَّ نقول : (الحمد لله ربِّ العالمين ..) هل استشعرنا هذا الحمد أم أنَّ البعض يقولها بدون أن يشعر بمعناها وهو ساخط على ظروفه نهاره وليله لأنه لم يحقق أحلامه الدنيوية مهما كانت أهميتها أو يمتلك بيت يأويه فيطمع بأن يمتلك عمارة متعددة الأدوار ، فكيف يستشعر رد الحق عليه (كما جاء بالحديث القدسي ) بقول الحق : " حمدني عبدي " والعبد يقولها وهو مقطب حاجبيه والحنق يكاد ينطق في تقاسيم وجهه ، ثمَّ يقول : ( الرحمَّن الرحيم ) والرحمة هي صفة الحق جلَّ جلاله وأراد سبحانه أن يتصف بها عباده وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الرحمة المهداة وجاء في الآية : ( وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين ) لذلك يُسمى : ( رسول الرحمة ) لكي نتعلم منه الرحمة والتراحم والمرحمة فكم من يتلو : ( الرحمن الرحيم ) وهو قاسي القلب أو عاقٌّ لوالديه أو يأكل مال الأيتام فهذا كيف يرد عليه الحق حسب الحديث القدسي ؟ إنما ترد عليه ملائكة التوكيل : كذبت ...
وإن قال : ( ملك يوم الدين ) وهناك من يقولها وقبل الصلاة كان يقول : أنا أملك أموالاً وعقارات ، والبعض يتوهم بأنه يمتلك من هذه الدنيا شيء وهو يأكل أموال أخواته من ميراث أبيهم ليستحوذ عليها لوحده فهذا أيضاً تكذّبُّه ملائكة التوكيل ، وإن قال : ( إيّاك نعبد وإياك نستعين ) فهذه الآية اختبار لأكثر المسلمين لأنَّ معناها : لا نعبد إلاك يا ربِّ ولا نستعين بغيرك على أمور حركتنا بالحياة ومن هؤلاء من يعبد مع الله المال أو يعبد عمله أو يعبد ما دون ذلك ومعنى العبادة هو التوجه الكلّي نحو الشيء ومنهم من يقولها وهو يفكر بحرصه على الدنيا .
وأما أخطر آية فهي التي تليها : ( اهدنا الصراط المستقيم ) وهو يسير على ألف صراط غير الصراط المستقيم البعض يكذب طوال النهار والبعض يبحث عن صراط ليحتال على الناس والبعض يكذب ويغش ليروج لبضاعته والأخطر من هؤلاء هو الذي يُقسم بالله وهو كاذب لكي ينجوا من خزيّ الناس ونظرتهم له ولا يستحي من الله والعياذ بالله من هذا الصنف ، وطلب الهداية في هذه الآية له معنى وهو أنك أيها العبد تسأل الله تعالى أن يدلَّك على صراطه ، فكيف يدلّك على صراطه وأنت ما زلت على الغش والكذب ؟ ولا يهدي الله تعالى إلى صراطه إلا التوابون من عباده الصادقين في توجههم إلى نوره وطريقه ، وأما تكملة السورة فهي : ( صراط الذين أنعمتَ عليهم ) وهذا تعريف بالصراط فهل اتبعت أيها العبد الواقف بين يدي الحق ما كان يفعله الذين أنعم الله عليهم ؟ وهل خصصت من وقتك لتقرأ وتدرك ما هي الطريقة التي تجعلك من هؤلاء ؟ وأما الأخيرة فهي الطامة الكبرى : (غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) وهذا مفهوم واسع لا تكفي المقالة لسرده ومن أراد أن يعرف أصناف الذين غضب الله عليهم فليقرأ آيات القرآن العظيم ، وأمَّا الضالين فهم كلَّ من حاد عن طريق الحق .
الإيمان صعب مراقيه لأنَّ الإيمان مقرون بالأفعال لذلك لم تخلوا آية ذكر فيها الإيمان أو أهل الإيمان إلا وقرنها الحق بالعمل مثال : ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) علامة الإيمان هي العمل الصالح والعمل هو معاملاتك مع بقية الخلق هذا هو ميزان إيمانك .
لو وقف شخص ما بين يدي القاضي وهو سارق فإنه يقف ذليلاً في قفص وعندما يسأله القاضي يرتبك ويرتجف ويضطرب لعلَّ القاضي يرحمه ، فكيف من يقف بين يدي الله بالصلاة وهو يفكر بالأسهم هل ارتفعت أم انخفضت أو بأمور الدنيا التي لها أول وليس لها آخر .
والله سبحانه وتعالى يقول : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) والقرآن نزل على الناس وليس الجبال ، إنما هو مثال لعلنا نتفكر كما قال الحق ، وعلى جبل أصم فكيف بقلب الإنسان من لحم ودم ؟ إن لم تفتح قلبك لنور كلمات الحق وتستشعر الخشوع فلن تفهم كلام الحق وهنا لطيفة أخرى ذكر الحق : ( خاشعاً متصدعاً ) عندما يكون القلب حيّاً فإن قوة نور الآيات تصدع القلب وليس المعنى هو الشروخ المادية كما في الجبل بل المقصود منها هو رسوخ الآيات في القلب وكأنَّ القلب تشقق وزرعت فيه آيات الحق .
اللهم فهمنّا عنك ومنك وبك إنك أنت السميع العليم .
بقلم 🖋️ البتول جمال التركي