يقول صديقي وحيد الغامدي في مقال له "في يوم الأب .. أحيي روحا ترقد بسلام" أنه قد ولد بعد حوالي شهرين من وفاة والده الفلاح البسيط رحمه الله، ويصف في مقاله بكلمات تضج بفيضانات المشاعر والشجن، أنه قد قابل العالم وحيدا، وأنه قد وجد من المحبين القليل، ولكنه يظل مندهشا من كثرة من وجدهم يقفون ضده ويعادونه، حتى بدون أسباب ظاهرة عقلانية، ولمجرد كونه يختلف عنهم، بنظرته وأفكاره ومشاعره، ويتمه، وفهمه لهذه الحياة من حوله.
تواصلت معه ساعتها وأخبرته بأني توءمه في البدايات، حيث توفي والدي رحمه الله في "حرب القهر" قبل شهرين من ولادتي، وأني قد عرفت الفقد الحقيقي منذ البدء، وخطواتي آخذة في التشكل فلا أشاهد على رأسي الصغير ما أشاهده على رؤوس أقراني، من وجود الملاك الحارس، الراعي، المربي، المغدق، المفتخر، المعلم، المشجع، المهذب، المساند، الواثق، ببعد الخطوات بيننا.
لست أدري هل كنت طماعا فيما أتمنى، وهل كل من له أب يجد فيه ما فقدته، أم أن بعض الآباء مثل قلتهم، مجرد أسماء، وحضور أزياء في مناسبات، وطلة مهيبة، قد يغيب بين تعدد البيوت؟
لست وحدك الوحيد، وكم من أبناء بحثوا ولم يجدوا، وكم من أبناء وجدوا، ولم يشعروا بالفرق، وكم من الأبناء تمنوا لو أنهم أيتاما، وكم من أبناء وجدوا في آبائهم تدليل وتحوير، وتبعيد، حتى تاهت خطواتهم في مدن التساهل والضياع، حتى انتثرت أمنياتهم، بين التافه، والمهلك.
يا وحيد تلك شريحة كنا من ضمنها، ممن توجب عليهم العمل على أنفسهم منذ الصغر ودقة الجزئية، وتقبل القليل، واعتباره نعمة، والتعايش مع كلمة تعاطف قد تصدق، وأخرى قد تجامل، وغيرها مما يعتبر انتقادا أو شماتة.
العدو قد يأتيك من أمامك، وقد يتحايل ويأتيك من أماكن لا تتوقعها، وقد تحاول فهم من أين يأتي، وهل "الكحكة في يد اليتيم عجبة" كما تقول أمثال المصريين؟
أم أنه يتوجب عليك متابعة القطيع، وأن لا تكون مجموعة إنسان تسمع وترى، وتبحث عن حرية وعدالة، وتغضب، وتهضم، وتتقبل المجاملة، وتمحو، وتنسى، وحينما تحزن، تذهب للركن البعيد الهادئ، خوفا من أن ترى في حالة ضعف وانكسار، خصوصا وأن سنة عندك عن عشر سنوات عند طفل لا يضطر لهش ذبابة.
القدر تسارع معك، وصنع منك طفلا خلال أشهر، ثم يافع خلال سنوات بسيطة، وبين خطوات تسارع عدوك، وجدت أنك مسؤول عن كل شيء في حياتك، وأنك وحدك في المواجهة والدفاع، وملاقاة الفرح، والحزن.
تسارع القدر، ودمج الشرائح أسرع وأقوى، وربما تبلغ الشيخوخة، وأنت في عز الشباب، ليس هرما بقدر ما هو حكمة، وقلبا، ومعرفة، وقدرة على فهم الأشياء بطريقتك الحميمة إلى أضلاعك، والتي قد لا يفهمها البعيدين عن مجال رؤيتك، التي تأخذ وقتها وبالاستعانة بذاتها فقط، لفهم الأحداث، وبالتالي للبوح بما تشعر به بصفاء ومصداقية، ومما قد لا يفهمه الأغلبية، ولا يستطيبونه، ويعتبرونه مجرد غرور تتكلل به، من زاويتك المستجدية للتعاطف، والحقيقة أنهم لا يفهمون أنك لا تستجدي، ولكنك لا تعود تقبل المشاعر المزيفة، وأن لك القدرة على سبر الأغوار، وقياس وتقدير الأمور بما تستحق، ودون بهرجة أو سباحة في غمر بالدموع، وسط الطوفان، الذي لا يبقي ولا يذر.
اليتم في النفس، وليس في وجود وعدم وجود المتعاطفين المحبين، ورب صفاء في النفس يفتقده الكثير، يظل طاغ في حياتك، ويشمل كل من يبلغ مستقر روحك.
بداية الصفر هنا تحدث، وأرقام تبلغ المليارات، بتسارع الانفجار العظيم، يحد خطواتك، وتمددك، ويتابع رحيلك للثقوب السوداء، فلا تحزن، أنا وأنت أكوان متعددة، ولنا مسارات لا بد أن نبدعها نجوما على دروب التبانة.