لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة، الكتابة عن أمي تشبه رسم طريق أو تعبيد مستقبل سأخطوه يومًا، لن أقول إن كُتِب لي عُمْر؛ لأن أمي شابة لم تكبر في مخيلتي أبدًا.
أعرفها سيدة جميلة وقوية لا تهاب ظرفًا ولا موقفًا يحاول مخطئًا أن يطرق بابها؛ وما زالت في مخيلتي تلك المرأة، ولكن السيدة التي أجلس أمامها الآن ما هي إلا وجه جدي المتهالك نَخَلَهُ الحزن الصامت حتى تجَعّدت ملامحه، ذات الإصبع الذي يرتفع إلى أنفه ليداعبه منزعجٌ من وهمٍ لا يراه سواه وأكتفي بتسجيل الصورة.
بدنه العظيم الذي يرتفع وينخفض مع كل شهقة وزفرة يرتفع معها أملي وينخفض يأسي، دمعتها التي ذرفها يومًا لم أُطِقْ تحملها فكيف بهامةٍ تبكي، لابد أن الألم يسخر منهما؛ صوتها الذي يصف كلماته الحنون تتردد على مسامعي كل ساعةٍ يرن فيها جرس الجهاز الذي يصلهما بالحياة.
ذات اللحظة تتكرر فالتاريخ دولاب يدور بذكرياتنا وأفعالنا نعلم يقينًا أن العاقبة لنا، كيف تفعل بنا الفجأة، تسحق استيعابنا فلا تترك إلا آلة تتصرف بالمعهود، أمي التي تخطو نحونا بكبرياء العزّة لا مكان للعصيان فينا، حتى الحلم فيها لا يتهاون أن يكون بُشرى الحقيقة التي تُخْفي.
رزقٌ من الله طلبته جهرًا أن يكون سرّي الكبير أراه خيرًا يتدفق على الألسن ليريح قلبي من حسرة الماضي.. ربما إن عادت أمي للبيت!
لتكون النهاية مفتوحة فالباب لا يُغْلق من ذاته ولا يعبث به ريح هائج..