إلي تلك القرية النائمة في سفح الجبل يممت وجهي شطرها,أسابق شعاع الشمس قبل الشروق, كان يجر خطواته الثقيلة في السماء وأنا أطير إليها بقلب أنهكه كثر الحنين وهدته أشواق السنين .
كانت الشمس تحمل في يدها سراج من ضياء تشق به صمت الفجر وتكشف به العتمة التي تغطي وجه الطريق.
التقينا كلانا على عتبات القرية , وياله من لقاء قريتي (قرية المروة) تلك البقعة الخضراء في خد الأرض تحيط بها تلال صغيرة يمسكن ببعضهن كالأخوات , تغطيها أشجار السلم وجاراتها من أشجار المض بأجراسها البرتقالية يتناثر بينهن (بنات الجبل )كما يحلو لأهل القرية تسمية شجيرات (العدن) الفاتنة بأطواق الزهور الوردية التي تعتلي رؤوسهن كجواري قصر الرشيد على ضفاف دجلة فترى إحداهن واقفة تلوح بيدها للنسيم وثانية متكئة كأم ترضع وليدها وثالثة على الأرض تلعب بالحصى وأخرى منحنية كأنما تقطف زهور نيسان .
تشرِف تلك التلال على وادِ أنيق يلتف حول القرية التفاف السوار على المعصم أشجاره متشابكة الأغصان كالمظلات يجري فيه النسيم بلا لجام يطارد الأوراق الهاربة من الأشجار فيلقيها على الأرض ,ويداعب أزاهير السنا الصفراء فتصدر أصواتا كخلاخيل الفضة, ويلقي التحية على الظلال
الناعسة , ويعبث بريش اليمام ويسابق الحمام , نمت على شفاه الوادي حقول باسقة الزرع تسر الناظرين وسنابل مرصعة بالقمح الأحمر(الزعر)يلمع في الشمس كياقوت بورما فرّخت في تلك الحقول طيور السُمّان وعششت إناث القطا وحلقت في سمائها الطيور المغردة وانتشرت الأنعام من الأبقار والماعز ترتع قريبا منها , وحرك مزمار الراعي أشجان الرعاة .
وفي أعالي الحقول تظهر قريتي كزهرة برية أراق عليها الفجر أباريق من الطل والندى ببيوتها الحجرية وطرقاتها الضيقة ومسجدها الصغير ومئذنتها الخاشعة وبئرها العجوز ودكانها العتيق وعبق الطين وريعان الرياحين عند الأبواب وأصوات الصغار في أزقة القرية والطيور التي تلتقط الحشرات الساقطة حول الفوانيس ورائحة الجلجلان المحموص والقهوة المنبعثة من بيت الجدة (رحمة) ذلك البيت الحجري الأسمر لُفت على رأسة عصابة من المرو الأبيض بنوافذه الخضراء وبابه المتين ذو الحلقة الحديدية كقرط الملكة بلقيس, تتسلل خيوط الشمس الذهبية من ثقوبه ثم لاتلبث أن تتحول الي رداء من نور يغطي المكان وفي فنائه الصغير تقف سدرة يافعة تحرك ظلالها ذات اليمين وذات الشمال تتدلى منها أرجوحة صغيرة ربطتها الجدة (رحمة ) بحب وأمان لحفيدها أحمدهنا توقفت الحروف وتبعثرت الذكريات واستدار الزمان وأكملت الشمس تلك الحكاية فقالت: في عشية من عشايا الخريف وقبيل الغروب وصل إلي القرية عابر سبيل يستطعم أهلها عليه ثياب رثة وتعلوه وعثاء السفر , يربط بطنه بحبل قديم وفي يده قربة ماء عليها أسمال ممزقة من الخيش البالية فنزل ضيفاً على شيخ القرية وبات عنده تلك الليلة
وفي الصباح استيقظت (رحمة) على نداءات الشيخ (يحيى) يطلب منها رؤية مريض في بيته, إنه ضيف الأمس أصبح يعاني من الحمى والسعال المصحوب بالدم , وحين رأته الجدة رحمة أصابها الهلع , وصرخت في نفسها إنه العدو القديم جاء هذه المرة في جلباب عابر سبيل إنه (الطاعون الرئوي ) خرجت العجوز مسرعة لاتلوي على شيء عائدة الي بيتها أنزلت حفيدها من أرجوحته وخرجت به متجهة الي شمال القرية حيث طريق المسافرين الي الشام وهناك على قارعة الطريق انتظرت الجدة لساعات عدة محتضنة حفيدها وقد احتل القلق أنفاسها وطاشت في رأسها عشرات الأسئلة
الطاعون لماذا عاد من جديد؟
وكيف سنواجهه ومن هم ضحاياه هذه المرة؟
فقبل ستون عاما فقدت (رحمة) عائلتها في وباء الطاعون الذي اجتاح القرية ولم ينجو منهم الا القليل أما هي فقد أرسلتها أمها مع أخيها الي الجبال حيث بيت جدتها لأبيها
و بقيت رحمة واخوها ثلاث سنوات هناك حتى تطهرت القرية من ذاك الوباء .
والآن يعود الطاعون في هذا الفصل فهل سيحصد الأرواح قبل حصاد الحقول وهل ستجف القرية كأوراق الخريف ؟
عادت الجدة (رحمة) الي القرية مثقلة الخُطا وقد أودعت حفيدها مع مسافرين متجهين نحو الشمال وأودعته زاده ومؤونته وقلبها الكسير .
أتجهت الي بيت الشيخ يحيى لتخبره أن ضيفه مصاب بالطاعون وأن القرية على موعد مع الوباء من جديد
انتشر الخبر في أرجاء القرية ودب الخوف والهلع في نفوس الأهالي وعزم الكثيرون على الرحيل وهناك وقفت الجدة رحمة كشجرة معمرة ثابتة الجأش في ساحة القرية تهدئ من روع الناس وتأمرهم أن يبقوا في بيوتهم حتى لاينتشر الوباء وأن يلزموا الدعاء والأستغفار .
لزِم العقلاء منازلهم وعكفوا يدعون الله أن يصرف عنهم وعن قريتهم هذا البلاء, أما العم مفرح وأخته الأرملة وأيتامها فقد غادروا القرية قبل بزوغ الفجر ,وظل السفهاء والجهلة يجوبون طرقات القرية ويتناقلون قصص الطاعون ومافعله بالناس عبر السنون.أمر شيخ القرية أن يلزم هؤلاء بيوتهم وأن توضع أكوام من الشوك على أبواب المنازل ليمنعهم من الخروج وتولت الجدة رحمة والشيخ يحيى إرسال البُر واللبن والسمن إلي الأهالي في بيوتهم .مرت القرية بأيام عصيبة لكنها اجتازت هذة المحنة بتكاتف الجميع ومر الطاعون خفيفاً وانحسر الوباء ونجا الكثيرون وعادت الحياة من جديد الي ساحات القرية وحقولها .أما الجدة (رحمة) فلقد نال منها الفقد و الحنين لحفيدها مالم ينله الطاعون منها.
مرت خمس سنوات وهي تخرج كل يوم الي ذاك الطريق تتفحص وجوه القادمين وتسأل العابرين علّها تجد ريح أحمد .
نظرت اليّ الشمس فقالت :ومرت ثلاثون عاما قبل أن تعود
لقد عُدت متأخراً جداً عُدت وقد رحل الجميع وانطفأت الفوانيس ونامت القرية في سبات عميق .
والآن وبعد ستون عاما عاد الطاعون من جديد بملامح أجنبية وربطة عنق وأسم جديد كورونا (كوفيد_19)
ورغم مانشره في العالم من رعب وماحصده من ضحايا إلا أننا بفضل الله ورحمته –ثم بجهود وطننا وحكومتنا وأبطال الصحة -مازلنا آمنـــــــــــــــــــــــون
كل مايمكننا فعله كمواطنين ومقيمين أن نلزم منازلنا وأن نلتزم بشعار (كلنا مسؤول )فلا مكان في هذة المواجهة للسفهاء والأغبياء والخارجين عن الطاعة ومن منازلنا ونوافذنا وشُرفاتنا نرسل آيات الشكر والأمتنان
فشكراً لله من قبل ومن بعد
شكراً ولي أمرنا -ملك الإنسانية
شكراً أمير الرؤية ومهندس النهضة
شكراً لأبطال الصف الامامي في المواجهة أبطال الصحة شكراً للمرابطين الأبرار على الثغر الجنوبي
شكراً للعيون الساهرة رجال الأمن
شكراً لأبطال التعليم الذين مازالوا ينشرون النور شكراً لصناع القرار ولكل تاجر نبيل عرف أن التجارة الرابحة في وقفة صادقة مع وطنه ولكل عالمٍ جليل وقف يسوي الصفوف شكراً لكل متطوع وهب نفسه لوطنه دون مقابل
شكراً لكل مواطن صالح ومقيم مخلص
سنبقى آمنين بإذن الله -وغداً ستعود (حي على الصلاة)
وينطلق النشيد الوطني من أروقة المدارس
ولنتذكر أنّا (متحدين نقف – متفرقين نسقط)