جئته زائرا، وجلست أمامه وأنا أتطلع إلى تغير حاله، عما كان في السابق، حينما كان حرا، يرحب بي، وهو ينظر لكل الزوايا قبل أن يجلس بوجل، ويهمس لي من خلف القضبان: المكان الأسوأ على وجه الأرض إذا ما استثنينا من ذلك الولوج للقبر هو السجن بدون أدنى شك.
ثم يبتسم بوجه كالح ناحل: لعلك لم تجربه، ولكني جربته، ليس على سبيل البحث والتجربة والتحري كما تفعل أنت، ولكن بأسباب اقتراف زلة حقيقية شنيعة، وأمام جميع البشر، فأرجو أن تقارن عدالة عقوبتي من عدمها، وأن تتذكر وجودي هنا بعد انتهاء الزيارة، أما أنا فسأعيش وأحلم في الليالي، بأحلام مزعجة، وأصحو مفزعا، خشية أن تضيع أوراقي، فتكون قصتي جزءا من قصص كثير من المظلومين داخل السجون، بعد ان فقدوا حجتهم وقدرتهم وإيمانهم بوجود العدالة.
ويتناول بيده كوب الشاي العميق، الذي سمح له باصطحابه أثناء مقابلتي: إنها تجربة مريعة للغاية، تتمثل بالغوص عميقًا بين الممرات الصلبة المرقوبة، وخلايا السجن الجماعية المصابة بالتحديات والقسوة، وقلة الأدب، وخلايا السجن الفردية، المصابة بالجنون، والتوحد، والخوف، والهذيان.
ويسترسل: وكم نحاول أن نلعب في ملاعب وأماكن الاستراحات المتعبة المملة، المريضة، ناقصة الصدق والرغبة حتى في الضحكة.
ينظر لي بحزن: من يوجدون في السجون هم بشر مثلكم، والبعض منهم يستحق مسمى إنسان، أو صفة مظلوم، وليس جميع من هم هنا مجرمون، لا بالفطرة، ولا بالتعود.
ويعاود النظر لهراوة الحارس الشديد من خلفه: صدقني البعض منهم يدخل السجن لأول مرة في حياته، والبعض يعاشر الألم والندم، والبعض دخل وخرج إلى هنا عدة مرات، وعدها لعبة، والبعض أصبح يفضل حياة السجن على ما يحدث خارجه من جنون وظلم.
وبغضب مكبوت: صدقني البعض منا له أهل في خارج هذا القضبان، والأسلاك الشائكة، وهو يعلم أنه لن يخرج قريبا، ويشعر بالخزي، فلا يتمنى أن يقابل أعز الخلق عنده، والبعض يحسب الأيام وهو يعرف متى يتم الإفراج عنه، فيظل يحلم بالمرحلة القادمة، وكيف سيعبر منها لحرية أبدية، وهل سيتحقق له ذلك، وهل سيقبله أهله، ومجتمعه؟
والبعض نسي العد، والبعض يدرك أن سنوات العمر لن تفي بالغرض.
البعض يعيش في ندم ومرارة ويظل يرفض واقعه يوما بيوم وسنة بسنة.
والبعض تأقلم وتحجرت مشاعره، والبعض اضمحلت وتدنت مطالبه بالحصول على شربة ولقمة وقليل من احترام.
ويتلوى وجهه متألما: في السجن يا من لا تدرون، تخضع وتتحدر الأنفس الزكية، وتهان النفوس العلية، ويتم قصقصة الريش، وتدريب عنفوان الخيول البرية، على تقبل قسوة السرج، وجرح الرسن، والخشية من قرع صوت السوط.
وبفلسفة المساجين يكمل: في السجن طموح ضئيل، قد يتم تضخيمه، ويأس يتراكم، وروتينية وحرمان تجعل الدمعة تجف ممراتها مع ملح الوقت.
وبتقمص لحالة ثقافة العصر: في السجن عزلة، ونسيان، وحماية تختلف حروفها وأقلامها ومحاياتها، ونفاذ أوراقها.
في السجن خوف، قسوة، وطموح بالسيطرة، وعنف، وتحول بالنوايا والأمنيات إلى مدافن القهر والخضوع وفقدان الكرامة.
في السجن معلبات وثوابت لا تشتهى، وروتين قاتل، ونظام أقسى وأعلى من أن تعتليه لحظات الجنون.
في السجن، تولع ببراءة مهما كانت هشة، وحكاية تنسج بخيوط المزايا الكاذبة، مهما ساءت وغارت وتدفقت قذاراتها.
وينظر لي بعينه الحائرة: البعض يعترف، ولو بشكل تنفيس عن ذنب وجرم، والبعض يظل يحكي بسرديات ومظلوميات حزينة، والبعض فعلا مظلوم، غير أن أوراقه مختلطة بسوء وسواد وغباء شرور زملائه، فيعيش المأساة والمظلمة، والحقد على البشر وسائر الدنيا.
وينظر للبوابة من خلفي: الخطوات على سلم الخروج من السجن تختلف، فالبعض يحتاج لمن يبني له السلم، والبعض ينتظر نزول السلالم من السماء، والبعض يعلم أن سلمه لا يعرف طريق بوابة الخروج، وأن حياته متاهة لا تلتقي أبوابها.
وتدمع عينه بصعوبة: في السجن حياة، إن حق لنا تسميتها بالحياة، لأن الموت فيها مستمر متجدد، مهما تزين وجه الحال.