لو كانت لي سلطة لأصدرت قانوناً يمنع مسابقة جينيس للأرقام القياسية و السبب أن هذه المسابقة اطلقت العنان للجنون البشري. اصل المسابقة بدأ في سنة 1951م في مسابقة لصيد الطيور في أوروبا حين تساءل “هيوغ بيفر” مدير شركة للبيرة: أيهما اسرع طير الطيهوج او الزقزاق الذهبي؟ أثار السؤال الكثير من الآراء ولكن دون التوصل الى نتيجة و لم ينم جفن لبيفر تلك الليلة إلا حين أوكل المهمة لنوريس و روس ماكويرتر لتقصي الحقيقة.
جن جنون العالم فيما بعد، المئات من المتنافسين اخذوا يلهثون خلف تحقيق أرقام عالمية جديدة في مجالات عدة خاصة حين لقوا تشجيع كبير من الجمهور. تفاوتت و تنوعت أرقام جينيس من مسابقات تعكس تصميم و طموح مثل الأرقام الرياضية العالمية مثل رفع الأثقال أو الجري بسرعات و مسافات مختلفة فهؤلاء فعلا يستحقون شهرتهم فهي جاءت بعد جهد جهيد و مثابرة طويلة مع التمارين والتزام حمية غذائية صارمة للحفاظ على قوة الجسد. لكن بعض الأرقام لم يبذل صاحبها أي جهد، مثلاً: أطول رجل في العالم أو أقصر سيدة فهذه من أمور الخالق، ولكن المسألة تطورت الى أمور جداً سخيفة كرمي قطعة سجق اقصى مسافة أو تكسير البطيخ بالرأس، وحتى مقرفة مثل تربية الأظافر أو وشم الجسد أو أكثر شعب يدخن!
لاحقاً، حاول القائمين على تلك المنظمة وضع قوانين من باب رعاية السلامة والصحة وحياة المتنافسين. مثلاً منعوا الافراط في تناول الطعام لأنه امر مضر بالجسم وقد يتسبب في وفاته ولكنهم عادوا لمنح اللقب في تناول الطعام في السنوات اللاحقة. أيضا دخول المتسابقين في أمور خطيرة مثل تناول العقارب او المكوث في غرفة منعزلة لفترة طويلة و "يا فرحة ما تمت" فبعد أن منحت الجائزة لفائزين سابقين تم منعها للمتسابقين الجدد بعد أن تجاوزا فترة الفائز السابق لأنها خطرة جداً.
كنت أقول هذا في السابق فغينيس تعتبر نافذة صغيرة مقارنة للانفجار الإعلامي الأن. فهذه الأجهزة "الذكية" ساهمت في تدني ذكاء بعض البشر وبدلاً من "ان يستر على نفسه بليته" قام بتصوير نفسه و نشر تلك المقاطع عبر القنوات الكثيرة. انه التهافت نحو الشهرة بأي شكل كان وهمهم الكبير هو" عدد المشاهدات"، فالمحتوى غير مهم و المعلومات غير مطلوبة و الدقة ليست بالخريطة أصلا. المتهافتين يريدون التربع على قمة الهرم ولا يهم نوعية الهرم سواءً كان من ذهب مسجوراً أو هباءً منثوراً. طلب الشهرة و الظهور امام العالم باي شكل كان وبأي فكرولا تهم الاخلاق والمبادئ ، فشتم الاخر و النيل منه ثم البكاء والاعتذار لاحقا ً أصبحت حلقة مكررة من مسلسل ممل فالشهرة اهم من كل ذلك. الامر هذا ظهر جليا الان في "السوشل ميديا" فهناك من يلهث خلف الشهرة والاعلانات و مستعد لفعل أي امر خادش للحياء او غاية في السخف والسماجة أو الاستهزاء من سيدة بالرجال والعكس. ناهيك عن الهياط والتفاخر بالأموال و العبث بنعمة الله في وجود عشرات الجياع فقط لتتداول صوره في الشبكة العنكبوتية و دوران عداد الارقام.
سؤال أوجه لهؤلاء؟
أما الان وقد اشتهرت، فهل تعلم أن محتوى شهرتك هذه، هي قيمتك الحقيقة؟
حكمة أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب الخالدة " قيمة كل أمرئ ما يحسنه"
كونك سليط اللسان تتناول الاخرين بالسوء هي بطاقة تعريفك للعالم. إن نلتِ الشهرة بسبب خلعكِ لرداء الحياء فهل تبغي شهرتك هي قلة حياءك؟ هل انت راض عن عملك الخادش للحياء والمخالف للأعراف والتقاليد والذي يبين اخلاقك ومستوى تفكيرك؟ هل تريد ل"عبارتك المشهورة" والتي ترددها في أونه وأخرى، أن تعلو اسمك واسم عائلتك وقبيلتك؟ المؤسف أنتشار عبارة " مثير للجدل" كمفخرة لصحابها فهل يعلم أن الجدال امر مشتت للطاقات والأفكار وأنه بلا فائدة. لما لا نستبدل تلك عبارة " مثير للجدل" بعبارة أخرى اعمق بالفهم و اسمى بالوعي وهي " مثير للتفكير" لما لا تطرح افكارك و تأملاتك للعالم والطبيعة و بدائع الرحمن فبهذا نرتقي و بدون نتوه و ننتهي كما بدأنا من الصفر.
ختاماً، خير لك أن تفخر بمتابع واحد واعي مؤدب مثقف لأنه بذرة شجرة مثمرة، ولا عشرات من المتابعين اللذين قد يضحكوا علي تصرفاتك الان ثم يسخروا منك لاحقاً حين يعووا على ماذا تهافتوا!