ظل يراوح في مكانه، ويعيد النظر لشاشة حاسوبه، ويقلب صفحات هاتفه، ويقوم بإرسال رسائل نصية، بعصبية واضحة، قبل أن يتنبه لوجودي إلى جواره:
- أنت هنا، لا بد أنك تعرف ما أعاني منه، فالمطلوب مني الآن أن أخرج على الشاشة، وأن أقوم بتحليل الموضوع الطارئ بطريقة مقنعة، وأنا ذاتي لست مقتنعا.
ثم ينثني على أوراق بين يديه:
- أصبحت نزيلا لمعظم القوائم السوداء، في بلدان عديدة، لم أعد أستطيع زيارتها، فالأمر لا يخلو من تحليل هنا يجرح، أو حوار هناك يفضح، ويجعل السلطات فيها تبحث عني، وتتمنى أن أدخل مطاراتها ليتم تأديبي.
ويهز رأسه بضيق:
- السياسة دوائر متداخلة، اليوم نعيب في جهة معينة، ونكون قد مدحناها من قبل، ولا بد من الترقيع، والتناقض يلاحقنا، ومواقع التواصل نقاط مراقبة كارثية، يستطيعون من خلالها استحضار كلماتنا ووجهات نظرنا من قبل سنوات طوال، ومفاجئتنا بها، والمقارنة بينها، وبين ما نقول اليوم، والحياة مواقف متبدلة، بل ومتذبذبة، ومتناقضة، تجعل الموقف العقلاني مهزوز، ومضحك، بل وسخيف جدا.
ويعود للوقوف، وينادي على عامل الخدمة، ويطلب لنا كوبان من الشاي:
- نحن نحتاج لكميات ضخمة، من هذه المشروبات المنبهة، حتى نظل نتابع الأخبار اليومية، والتوجهات السياسية، لكي نتمكن من معرفة ماذا علينا أن نقول، ومتى نصمت.
ويضحك:
- مع كل أزمة جديدة، لا بد من الانتظار حتى يخرج بيانا رسميا، ثم ننتظر كبير المحللين السياسيين، الذي لديه القدرة على جلب التوجهات، لنعرف من خلال اطلالته الأولى، كيف يجب أن ننطلق لشرح ما حدث، باعتبار أنه يوجهنا، إلى ما يجب، وما لا يجب أن نقول!
يتناول كوب الشاي، ويميل بظهره على الكرسي:
- المقدرة اللفظية تختلف، ولكن المادة واحدة، والشاطر منا من يستطيع أن يبرزها بشكل مميز يبهر السامع، وبكلمات مبتكرة، وطريقة درامية، مع أن ما يقال هو نفس ما قيل عدة مرات، ودون القدرة على مغادرة قضبان السكة الحديدية، التي نسير عليها جميعا.
وينظر لي نظرة جانبية، بوجه يحمل علامات الشك، وكأنه يراني لأول مرة:
- نظرة المجتمع لنا غريبة، وهم يعتقدون أن بيدنا الحل والربط، ويتم اتهامنا بأننا على علاقة مباشرة بصنع القرار، رغم أن بعضنا يتحرك من خلال هوايته وقدرته، ولا يوجد لديه غير امكانياته الذاتية.
ثم يبتسم بسمة خفيفة:
- لا أخفيك فالشكل والمظهر وحلاوة اللسان أشياء مهمة ومثمرة، فيكفي أن يكون الإعلامي وسيما، لتفتح له جميع القنوات، ويصبح علم على رأسه نار، رغم أن البعض منهم ببغاء لا يمتلك المنطق، وربما يغلط في تركيب الجمل، والبعض يمتلك سلاطة اللسان ويستخدم المفردات النابية، والسباب، خصوصا في الحوارات، مع المخالفين، والبعض يحاول أن يكون نجما على مواقع التواصل، بأنه اكتسح محاوره، وأنه قصف جبهته، ويجد المؤيدين، ومهما تدنت لغة الحوار، وانعدم فيها المنطق.
وقبل أن أرد عليه:
- أنا بالطبع لا أعني أشخاصا بعينهم، أرجو ألا تورطني معهم، ولكنا نعرف بعضنا، ونعرف القاعدة المعرفية والعلمية، التي نقف عليها، ونعرف مدى مغامراتنا، ونجد دوما من يبرر لنا أخطائنا، وربما يجعلها بطولات.
ويتذكر أنه على موعد للقاء على الهواء:
- بقي ساعة على لقائي، ولكنه مرحب بك، وهذا ليس دبلوماسية مني، ولكن صرنا في حال تأخرنا عن الاستديو نستضاف على الهاتف، ولعلها فرصة أن تشاهدني وأنا أشتغل.
أشعر بالخجل، وأهم بالقيام، والخروج، فيبتسم، ويهدئ من روعي:
- لا عليك، صرنا نصرح، حتى ونحن في غرف نومنا، التقنية أصبحت تخدمنا كثيرا.
ثم يزيد:
- الدول العظمى، لها تطلعات قد لا نتمكن من نقدها بصراحة، والدول الإقليمية تختلف في قربها وبعدها، وأنا أفكر في تصميم تطبيق (أبلكيشن)، يستطيع من خلاله المحلل السياسي، أن يعرف يوما بيوم، بل ودقيقة بدقيقة مؤشرات علاقات دولته مع جميع دول العالم، وهذا التطبيق يصدر أصواتا، ورسوما بيانية تبين تلك التحولات، ويمكن أن أسميه (تداول السياسة)، وما يدريك، فربما يصل للبورصات العالمية، ويصبح مؤشرا عالميا، يؤثر في السياسة، والتجارة، والاستثمار، وحتى في العلاقات الشعبية والسياحة، فيستنير برأيه السائح، قبل الرحيل إلى بلد، قد تكون العلاقة بينها وبين بلده حرجة، ومرشحة للتعسر، أو للانقطاع.
وبنوع من الغرور:
- أرجوك، لا تنشر ذلك، حتى لا يسبقني إليه محلل آخر!