ظل ينظر للزوايا بارتباك، وملامحه تتبدل، ويده تغطي طرف أذنه، فكأنه يدير حديثا مع أشخاص لا أراهم، ثم يعود لينظر نحوي بشك ووجوم، ويضحك، ويضرب كفا على كف، ويهز رأسه، والبسمة الصفراء تنثال من طرف فمه المفتوح.
يعاود هرش رأسه، وكأنه يبحث عن بئر يقين، ومن ثم يستوي في جلسته، ويمسح عن وجهه البسمة، وينظر لعيني، بتركيز مرعب، يزيد من تفرعات الخطوط الحمراء تغشى بياض عينيه:
- كلكم مجانين، وهذا بالطبع ليس وجهة نظري الخاصة، ولكني أحاول أن أقيس الأمور بطريقتكم المجنونة أنتم!
ويضحك، وهو يغمز بعينه، لجهة بعيدة من الغرفة، مما أشعرني، بأنه يرى ويساير، من لا أراهم:
- تتجملون في كل شيء، حتى المسميات، تكذبون، وأنتم تعلمون أنكم تكذبون فيها.
ويصمت وهلة، ثم يكمل بصوت مرتفع:
- أنا مجنون، فلماذا تُجَمِلُون الجنون، وتدّعُون أنه مرض نفسي، أو تخلف، أو اعتلال، أو ضعف عقلي، أو غيرها من المسميات السفسطائية السخيفة... عندما تتكلمون عن الجنون، فنحن كمجانين، نترجاكم عدم تجميل المسمى الخاص بنا.. قولوا عنا مجانين بكل صراحة.. لأننا كذلك.
ثم يميل برقبته تحت سريره، ويعود لوضعه ونظراته تشعرني بالخطر، وضرورة التأهب للهروب:
- حتى المعاقين، تبدعون في إطلاق الأسماء المختلقة عليهم، فمرة هم من ذوو الاحتياجات الخاصة، ومرة من ذوو القدرات الخاصة، ومرات هم من ذوو الهمم، وغيرها من مسميات كاذبة، وكأنكم تشتتون يقين المعاق، ولا تجعلونه يصدق بمعضلته، ليظل طوال الوقت ينكرها.
وينتقل بيده ليهرش خلف عنقه الناحل:
- ما الفائدة من عدم تسمية الشيء، باسمه، الأعمى تسمونه ضرير، ومبصر، وأبو عين كريمة، والأخرس تسمونه فصيح، ما هذا الخلط المريع!
ثم يصرخ وكأنه يهتف في مظاهرة:
- عاملونا بما نفهم، وليس بما تعتقدون أنه الأفضل لنا، لماذا لا يكون لي الحق في أن أقول: مجنون وأفتخر. ألستم جميعا تفتخرون بما أنتم فيه من أحوال، رغم أنكم تبدعون في عدم المصداقية بما تفتخرون به، فهذا يهتف: أنا عربي وأفتخر، وهذا شأنه الخاص، ولكن لماذا لا تفهموننا عندما نهتف بقولنا: مجانين ونفتخر؟
أشعر بأنه فعلا يتكلم بمنطق، وإن كان منطقا مجنونا بعض الشيء، وأفكر في الرد عليه، قبل أن يختطف مني الكلمة، ويستشيط غضبا:
- الجنون نعمة لا تفقهون قدرها، فبحمد الله نحن لا نكذب، وليس بيننا سياسي، ولا إعلامي، ولا تاجر حلاف بالزور، ولا متكسب من الدين؟
وأتذكر ساعتها بعض الحكام المجانين، ممن حكموا شعوبهم بمنطق الجنون، وأكاد أن أستشهد بهم، ولكنه لا يسمح لي بالحديث، ويعاود تساؤلاته:
- هل رأيت يوما فنانا مجنونا رسميا، صدقني نحن أصل الفنون، بالجنون، ونحن لا ندعي الجنون، فالمجنون الحقيقي لا يرسم عكس مشاعره، ولا يكتب قصيدة مديح لمن لا يستحق، ولا يدعي الحب، وهو كاره حتى لنفسه، ولمجرد رنين الذهب.
ثم يقوم من مكانه، ويهش بيديه في الهواء، وأنا لا أرى ما كان يهش، إلا لو كانت حشرة مجنونة، لا تريد الظهور لي، ويكمل:
- لماذا لا تضعون أنفسكم في أماكننا، لتعرفوا أنكم أنتم المجانين، وأننا أعقل من كل منطق تزيفونه، ومصداقية تختلقونها، نحن ولا فخر لا نتكبر، ولا نتجبر مثلكم، ولا ندعي ما ليس فينا، ودوما نترك لكم الحكم على ما تظنون أنه الأفضل، مع أنكم لا تحصلون إلا على أسوأ الصفات ولا نعرف كيف تقومون بتحريف مسمياتها، لتصبح كرامات، وشرف، ونجاحات وتميز وسبق وتكريم وشهادات ومسميات واهية.
حقيقة أني لم أعرف كيف أرد عليه وهو قريب مني، فقرأ مشاعري، وعاد لمقعده، وهمس لي:
- لا تخشى على نفسك من مجنون، وانتبه لمن يدعون أنهم ليسوا مجانين.
ثم عاد لجلسته:
- أرجوك أريد أن أرتاح، اخرج واسحب يد الباب بعدك كما تسحب خروف، أم أنك مثلهم، ستغلق نصف إغلاق، ثم تعاود التجسس من أي فرجة، طمعا في اكتشاف جديد أو خلل تؤكدون فيه عقلانيتكم ونزاهتكم، وأن الشر يكمن فينا، وغير مستبعد أن تقوموا بتلبيسي القميص الغريب، وتقييدي بأكمامه، وأخذي لغرفة الصعق الكهربائي، حتى تضوي جبهتي وعيوني، وتحترق أفكاري، لمجرد شكوك تمتلكونها، وتريدون اظهار أنفسكم من خلالها، بادعاء أنكم أكثر رحمة منا، وأن جنونكم المنافق أفضل من جنوننا الصريح.