سؤال يتصارع في وجداني بعد رحيل أمي عن دنيانا ، أيّهما أشد وجعاً وإيلاماً على القلب ..أهو رحيل أمي وبقاء مشاعر اللوعة على فراقها ، أم بقاؤها ورتابة المشاعر ؟ .
حدث قدَّره الله تعالى ولا اعتراض على حكمه وتقديره ولكن هذا الحدث زلزل قلبي وأصبح خاوياً ذاوياً حزيناَ حزن يعقوب على فراق يوسف ...
رحلتِ يا أمي الحبيبة إلى رحاب الآخرة جسداً وتركتِ مكانك في قلبي يدغدغ مشاعري شوقاً ولوعة وأسمع صدى صوتك في أذني ..
إلى من هو غافل عن معنى فقدان الأم (ولو بلغ من العمر عتيّا) احتضنوا أمهاتكم وهنَّ أحياء قبل فوات الأوان فركب الراحلون كلَّ يوم ينادي : أين المسافرين إلى دار الآخرة ، وأما إن كانت من الذين رحلوا فأمطروها بوابل الدعاء والتضرع ليكون لها الدعاء أُنساً فالدعاء والصدقة هما نور عند الميّت في لحده فلا تبخلوا بشعلة النور لأعزّ مخلوق في حياتكم .
لقد جائني الحزن على فراقك يا أمي مهرولاً ليفجر بركان آهات فقدك وساعات أُنسك وبديع مسامرتك وجميل دعواتك .
أمي أيتها الحبيبة لقد كنت عظيمة عظيمة جداً وقد تفاجأت بحدث في عزاءك لم أكن أعلم منه شيئاً فقد ازدحم بيتي بنساء يبكون بكاء حاراً ويعزونني ولا أعرفهم ولم أراهم عندك أيضاً ولما سألتهم من أنتّن ؟ فقالوا نحن من كانت المرحومة أمك من تساعدنا وترعانا وتسأل عنا وتجبر خواطرنا وتعيننا على أثمان الدواء حين نمرض ....
رحمك الله أيتها العظيمة لقد أخفيت حتى عني ما تقدمه يداك من خير للبسطاء والفقراء والمحتاجين .
وها أنت ترحلين بعد رحيل أبي فقد كنت أشّمُّ رائحة أبي فيك فيسكن شوق قلبي الفاقد لحبه وحنانه وها هو قلبي يفقد قطعة أخرى ... اللهم برّد تربة أمي وتربة أبي وكل غالٍ وعزيز علينا واجعل اللهم لهم نوراً في مراقدهم وطيب مضاجعهم بطيب الصلاة على رسولك صلى الله عليه وسلم واجعل قبر أمي روضة من رياض جنانك يا كريم يا عفوّ يا رحيم .
فراقك يا أمي قطّع أعصابي ومزق أمشاجي وهذا ابتلاء وقدر رضينا به .
وكيف لا أبكيك يا قطعة من روحي وجذوة الحنين من فؤادي ونبعة الحب من سويداء قلبي أبكيك حتى تتقرح جفوني ولا أوفيك فحبك يجري في شراييني ، لأنّ فقدك عظيم وهل هناك فقد أعظم من فقد الأمّ ؟
أصبح الوقت بعدك بلا طعم بلا نكهة بلا لون بلا رائحة ، فمن يتصل علي بعدك وقد كنت تتصلين يومياً من خمس إلى سبع مرات وإذا عرفت بأنني في السيارة في طريقي إليك تتصلين كل خمس دقائق وتقولين : لسه ما وصلتِ ؟ ..
أمي يا قلباً عظيماً كبيراً حنوناً واجداَ عطوفاً رحلتِ وتركتِ لي جبالاً من الشوق تعانق السماء فيا عين أبكي ويا شوق أوقد شعلة الحنين ، فوالله ماجفَّ دمعي منذ رحلتِ فهو كالبراكين الغاضبة يتحدر من مقلتّيّ .
لا أنسى عندما كنت طفلة وتجهزين لي حقيبة المدرسة وتسرحين لي شعري وتضعين المنديل المرتب بطريقة متقنة في جيبي . رحلتِ ولم أشبع منك رحلتِ وأخذت معك الفرح رحلتِ وتركت الدنيا فارغة بعيني فقد كنت لي الدنيا وزحمتها ، رحلتِ وكأن الدنيا تقول : الطيبّون لا يمكثون في هذه الدنيا طويلاً وإلى ربهم يشتاقون .أمي أيتها العظيمة كلُّ الكلمات تبدو متواضعة أمام هامتك العظيمة الكريمة وكلُّ ما أعبر به يبقى صغيراً أمام إنسانيتك وسجاياك وحنانك ونبلك ورقيّ أخلاقك .
وهكذا نحن البشر لا نعرف عمق المحبة إلا بعد فراق الأحبة .....