من محافظة إلى أخرى يجوب الباحث أسامة غزالي محافظات مصر شمالا وجنوبا، لإنجاز أول مشروع من نوعه بوضع خرائط شاملة لكل محافظة تتضمن الحرف اليدوية المشهورة بها، ضمن مشروعه الضخم “الأطلس المصري الثقافي الجغرافي للحرف اليدوية”.
بحثا عن “القلة والبلاص القناوي وفخار البرام والحصير ونسيج الفركة الفرعوني” بدأت رحلة التوثيق، في محاولة لتسجيل صور ومنتجات تروي حكاية الإبداع الحرفي عند المصريين، فبعيدا عن القاهرة وفي الأقاليم والمحافظات البعيدة انطلق مشوار غزالي لتدشين “الأطلس المصري الثقاقي الجغرافي للحرف اليدوية”.
من قنا جنوبا، وعلى بعد 650 كم من القاهرة، انطلق غزالي في مشروعه مؤكدا “أن الدافع الأساسي له للبدء في مشروعه لتوثيق ورصد الحرف اليدوية، كان تدشينه لمؤسسة ‘يدوية’ المعنية بدعم الحرف وتسويق المنتجات والحرف اليدوية ومساعدة أكبر عدد من الحرفيين على تطوير أعمالهم، كان ذلك في العام 2013”.
آنذاك عانى غزالي، وفقا لحديثه مع “العرب”، “من عدم توافر معلومات كافية عن هذه الحرف أو عن الحرفيين، إلا أن معلومات قليلة تنتقل مشافهة بين المهتمين دون أن يكون هناك توثيق وتدوين لها”.
وبعدها سافر غزالي إلى الهند في 2014 ليطالع كتبا وموسوعات هندية لتوثيق وتدوين الحرف اليدوية، مع وجود إشراف حكومي هندي على قطاع الحرف اليدوية، لتتبلور الفكرة في رأسه تماما بعد عودته ويقرر عدم انتظار تحرك حكومي أو مؤسسات المجتمع المدني.
قطاع الحرف اليدوية، في وقت بدأت حرف كثيرة في الأقاليم والمحافظات بالاندثار دون أن يعرف بها أحد سوى السكان المحليين للمحافظة أو الإقليم.
ويتابع غزالي “إن الحرف اليدوية في مناطقها ليست مجرد صناعات بدائية فقط، وإنما هي توثيق وتأريخ وتعبير عن التراث وهوية تلك المناطق التي تنصهر جميعها لتشكل الهوية الكبرى لمصر ولكل محافظة أو منطقة، تراث يمثل المكون الحقيقي للمجتمع الثقافي وبفقده واندثاره نفقد جزءا من الثقافة التراثية للمكان”.
ويضيف “عدد العاملين في بعض الحرف قليل جدا وأغلبهم من كبار السن، وبالتالي لا تتوفر خاصية نقل المعارف بين الأجيال التي تضمن حفظ التراث، وهو مؤشر خطير على اندثار الحرف اليدوية وما تمثله من تراث”، ووفقا للرؤية الخاصة لغزالي فإنه بحلول عام 2030 ستندثر المئات من الحرف اليدوية في مصر، وهو مؤشر خطير جدا.
ومن بين الحرف المهددة بالانقراض بشكل حقيقي “الحفر على جذوع النخيل وصناعات الأرابيسك من جريد النخيل وصناعات أخشاب الدوم، وحصير السمار المستخدم في فرش المساجد في الوادي الجديد، وصناعة الأطباق النوبية من سعف النخيل وعيدان القمح، وصناعات الخوص القديم الملون، والحلي النوبية من الفضة والنحاس والتطريز النوبي على الأقمشة في مناسبات الزفاف والكتابة على البيوت النوبية”.
النوبة وهويتها؟ الإجابة لا شيء”.
ويحذر من أن هناك صناعات أخرى مهددة بالانقراض على رأسها صناعة “القلة القناوي” وصناعة “فخار البرام” أو صناعة الحصير وصناعة نسيج الفركة الفرعوني، وهي صناعات في طريقها للاندثار والانقراض إلا في حالة وجود تدخلات قوية لإنقاذها وحفظ تراثها.
وزار غزالي معظم محافظات مصر، وتبقى له فقط زيارة محافظات الإسكندرية والفيوم والغربية وبني سويف، فيما وثق وانتهى فعليا من رسم 13 خارطة للصناعات اليدوية في 13 محافظة، هي أسوان والأقصر وقنا وسوهاج وأسيوط والبحر الأحمر والوادي الجديد وشمال سيناء وجنوب سيناء والمنوفية ومطروح وكفر الشيخ والشرقية، بعد أن وثق على كل خارطة الحرف والصناعات اليدوية الخاصة بكل محافظة وأماكن وجودها.
وأعطى غزالي لكل حرفة لونا مميزا لها، فيما يعمل حاليا على إنجاز العمل الباقي على محورين، الأول زيارة المحافظات التي لم يزرها، والثاني هو توثيق باقي المحافظات التي زارها بالفعل وتجهيز كل خرائطها.
خارطة للتراث:
أوضح غزالي لـ”العرب” أنه وفقا للخرائط التي رسمها فإن المجتمعات المحلية في مصر لكل منها خصائص مميزة، بتجميعها تظهر الهوية الثقافية للمجتمع المصري وارتباطه بعاداته في الزفاف والموت والولادة على سبيل المثال، لتتحول الخارطة إلى مؤشر على العلاقات والحركة بين المجتمعات المحلية في مصر.
وشكلت الحرف سجلا للعلاقة التاريخية بين قبائل البجا وقبائل النوبة (جنوب مصر)، ففي النوبة كانوا يستخدمون الألوان على السعف وخوص النخيل الملون، أما قبيلة البجا فاستخدمت خوص النخيل وأضافت إليه جلود الحيوانات، ولكن عندما امتزج المجتمعان وتقاربا تداخلت المنتجات في بعضها، فاستخدمت قبائل البجا الألوان.
ودخلت الجلود على منتجات النوبة، لتكشف الخرائط حركة التيارات الثقافية وهجرتها، وكذلك دور الطرق التجارية القديمة والقوافل التجارية قديما في التوثيق والحفاظ على بعض الحرف.
وشملت الدراسة التي قدمها غزالي محافظات أخرى مثل أسيوط (جنوب مصر)، وتحكي صناعة الموازين الحديدية القديمة ومعايير الغلال سواء من الألمنيوم أو الخشب والتي مازالت صناعاتها قائمة حتى الآن.
ملتقى القوافل التجارية القديمة كقوافل درب الأربعين والحجاز والواحات، وكذلك ممرات طريق الحج القديمة.
وجعل الموقع المميز لأسيوط مجتمعا ثريا نشطت فيه الحرف، ما أعطاها دافعا للاستمرار حتى وإن كانت تلك الصناعات غير مستخدمة بشكل حقيقي في الوقت الحالي، إلا أن استمرارها دليل على قوة المجتمع وارتباطه بتراثه الثقافي وعدم هشاشته أمام حركات الحداثة.
وأرجع غزالي أسباب انقراض بعض الصناعات إلى “انعدام التواصل ونقل المعارف بين الأجيال والتغيرات الحادة التي ضربت المجتمع المصري ثقافيا ودينيا واجتماعيا واقتصاديا، وهي أسباب عامة”.
وأشار إلى أن هناك أسبابا خاصة بكل منطقة ومجتمع محلي، فعلى سبيل المثال تسبب التطور في حركة السياحة واختلاف المنظور الثقافي للأزياء المحلية في توقف صناعة الحلي السيوية القديمة (واحة سيوه بغرب مصر)، كما أن هجرة المجتمع النوبي بعد بناء السد العالي تسببت في حدوث تغيرات حادة في طقوس الاحتفال بالزواج والعادات المرتبطة به، ما تسبب في توقف صناعة الحلي النوبية وصناعة الفخار القناوي نتيجة تطور المنازل والحداثة.
ومن بين العديد من حرف التراث المنسي، تبرز فنون حرفة “الهمل” أو كليم المفروشات الأرضية الصحراوي، وهو نوع يجمع في صناعته بين الكليم والسجاد من خيوط الصوف الطبيعي للأغنام وباستخدام النول.
وتستخدم تلك الحرفة في فرش الأرض للجلسات البدوية ولزينة الخيام والبيوت، ولا تعرف صناعته استخدام الأشكال أو التصوير الموجود في الكليم النوبي، حيث أن أشكاله هندسية بطريقة فطرية.
وحذر غزالي من أن تلك الحرفة أصبحت مهددة بالانقراض لعدم وجود من يعمل بها إلا عدد نادر من السيدات، وهو من التراث الهام بمنطقة الشلاتين وجنوب الصحراء الشرقية حيث تتمركز قبائل العبابدة والبشارية.
ويطمح الباحث إلى الانتهاء بشكل كامل من مشروعه منتصف 2018، بزيارة المحافظات التي لم يزرها ورسم الخرائط وتحليلها وتحليل اتجاهات حركة المجتمعات المحلية المصرية.