ا.د كريم فرمان *
يخوض الرئيس الفرنسي ماكرون هذه الأيام معركة خاسرة ومحفوفة بالمخاطر التي تحيق بالنظام السياسي للجمهورية الخامسة برمته.
هذه المعركة الخاسرة مع الشعب الفرنسي الذي لن يتنازل عن مكتسباته بدليل هذا التحشيد منقطع النظير للشارع والتظاهرات الكبرى وحتى الحرائق المشتعلة في شوارع باريس.
كان باستطاعة الرئيس ماكرون طرح القانون على التصويت في البرلمان وهذا افضل له من خلق أزمة سياسية واجتماعية عطلت قطاعات الاقتصاد والخدمات برمتها.
لو انه اجرى أيضآ استفتاء شعبي على القانون وهو إجراء ديمقراطي يستعمل لتفكيك الازمات بشكل سلمي لكان هو الافضل له.
ان الازمة السياسية والاجتماعية الحادة التي تعيشها فرنسا منذ اسابيع بمثابة مواجهة بين اقلية رئاسية تريد فرض رؤيتها الاقتصادية المرتبطة بكبرى الشركات العالمية وبين غالبية الشعب الفرنسي الذي يرفض النموذج الاقتصادي الليبرالي المتوحش ويتمسك بنموذج الوظيفة الاجتماعية للدولة.
اعتقد ومثلي كثير من اساتذة السياسة في العالم بأن النظام الراسمالي الليبرالي في أمريكا وأوروبا بدا يتصدع ويعاني من تشققات هيكلية واختلال في الدور الاجتماعي للدولة باعتبارها الضامن الأساسي للطبقات الاجتماعية التي تشكل أغلبية السكان ،فمن أزمة الكابيتول في نهاية عهد ترامب وظهور ذي القرنين يقود الحشود وهي تحطم ممتلكات مبنى الكونغرس واتهامات متبادلة بالتزوير بين الجمهوريين والديمقراطيين الى انهيار بنك السليكون الى شلل الخدمات والإضرابات المتلاحقة في بريطانيا الى غياب مفهوم الأسرة والتناقص الديموغرافي وارتفاع معدلات الانتحار وانهيار منظومة القيم مثل تشريع زواج المثليين وظواهر اجتماعية اخرى اكثر غرابة فاننا امام مشهد سياسي اوربي مضطرب ينبيء بتدهور الراسمالية والفكر الليبرالي الغربي.
ان الظلم الاجتماعي والتهميش ليس حكرا على العالم الثالث فالغرب يعاني من جمود الفكر الليبرالي وتكلس شرايين الديمقراطية وارتفاع معدلات البطالة والرفض الشعبي للقوانين جميعها تمثل معضلة في كيفية تطوير منظومة فكرية جديدة تستجيب لتطورات الحياة وتلبي متطلبات الوظيفة الاجتماعية للدولة.
ان لم يتراجع ماكرون عن عناده ويسحب قانون التقاعد فإن فرنسا ستكون أمام ايام سوداء لا تحمد عقباها وتعيد للذاكرة تظاهرات الطلبة في عقد الستينات من القرن المنصرم التي أسقطت اهم رئيس في تاريخ فرنسا الجنرال ديغول. التمهيد والاستشارة واستمزاج رأي المعنيين بالقرار ليس انتقاص من دور الحاكم إنماهو عنصر قوة لنظام الحكم فالتراجع عن مشاريع القوانين والقرارات قبل اقرارها افضل بكثير من استعمال السلطة والقوة لفرضها لانه في النهاية ينتج عنها اكلاف باهضة يدفعها النظام من رصيده الشعبي وتؤدي إلى أضعاف النخبة السياسية الحاكمة وتلاشيها ولو بعد حين.
* كاتب واكاديمي من العراق واستاذ القانون والنظم السياسية في جامعة الأخوين المغربية.