عهد عبدالله العسيري
كلما أمطرت قنا قلت في نفسي المطر هناك لايشبه أيَّ مطر في أيِّ مكان في الدنيا هو مطرٌ مراوغ وعنيد أحياناً يتعاون هو والريح فيشتد ليعصف بأشجار الفكس والأكاسيا ويُسقطُ ورود الياسمين الهندي المزروعة في حوش جدتي دون تنسيق فيقتلعُها ويلقي بها أمام سيارات جارنا الفارهة وأحياناً يأتي بخيلاً لايروي ظمأ العاشقين له والمتلهفين ولا أحد يعرف بالتأكيد متى يحنُّ على الأرض فيعانقُها أو متى يُجافيها فيهجرها طويلاً ويقسو عليها لكنه وفي كل مرة يهطل يعذب الذاكرة القلقة التواقة لحل ألغاز الزمن وأوهام الماضي وحنينه آه كم لقطراته طعم ورائحة اليوم سرحت الذاكرة بشوق للعناق والتلذذ بذكريات ملمس الحرير والدفء في راحتي جدتي اللتين تركتهما دون آخر لمسة بعد أن غادرتها متسللة دون أن تعرف أنني ذاهبة للعاصمة فهي بلا شك تكره ضجيج المدن آه لو أخذتها لأسافر معها عبر نفق الزمن لأتمسك بها وأبحث عن حب وعن عشق وحكايا ترضي حلمي للحصول على انتماء يغريني للتعلق بهذه الأماكن والوجوه والشوارع التي أعيش فيها تحولات التاريخ عشقت فيها تأثيرها المجهد الحنون والعنيد وطريقة تعلقي بها في ذلك الوقت المتأزم من أيام حياتي ، في خبايا الذاكرة وفي وسط وبين ثنايا أكثر عشوائيات العاصمة شهرةً وحيوية وأيضاً أكثرها بؤساً انسانياً ، أرى قنا مُنتشية وهي تمطر ومبتهجةً اليوم مطرٌ سخيٌّ وشهي أرى قطراتهُ عبر الفضاء تنزل في الأقاصي البعيدة فوق بيتنا الذي لطالما كان يمدني بحبر مختلف اكتب فيه قصائدي ، أما اليوم ليس للروح الآن غير مطر الذاكرة والطفولة وقد تناءتْ في هديل اليمام ترفرفُ في أعالي البياض من فرح الروح ، في استواء قوس قزح في السماء أمسكت قلمي لأكتب لهدهد الشوق كي يجيء بالمطر من قنا إلى الرياض يتقافز النبض شوقاً سمياً عند المروج الخضر في قريتي القديمة التي لازالت خضرتها إلى الآن في صدري ويستحمّ القلب بعطرها ، وأمي تلاعب شعري بيديها وقبلاتها ماتزال بالنبض صامدة والنبض يجري ويدور ولم أسمع غير صوتها والماء يهمي فوق وجهي حنوناً دافئاً تخبئني في صدرها مثل سنابل القمح عند الحصاد في الصباحات الندية مع أغاني الريف . أيتها الطفولة ونبضُ القلب ورذاذ الجوارح وتدافع الأضلاع وإحتراق الحنايا هذا الحنين الموجع يهطل هطوله في أقصى الأقاصي من هذه الروح أيتها الذكريات ليس لي إلاَّ صدرك الحاني امنحيني قليلاً من الأمان أما كثيره فلا حاجة لي به ، لأنني يوماً ما إلى القرية سأعود.