كان يحكي بكل تواضع عن قصته مع عوالم الهندسة، التي لم يبلغ مداه فيها، فكان منذ طفولته، عاشقا لكل طوبة تستقر فوق طوبة، وكل بناء متناسق.
وعودة لطفولته فقد كان حكاية إزعاج مستمرة لوالدته، التي تتفاجأ بأواني مطبخها متراكبة، على أشكال هندسية، تتطاول في البنيان، مستخدما أنواع القدور والصحون والنمارق، التي كانت تفقد الكثير منها، حينما تهد ما بناه، وتعيد ترتيب مطبخها.
وكان أكثر ما يريحه عند الانتهاء من تشييد كل مبنى، أن يضع مغرفة الرز، أو الكبشة على قمة المبنى، دلالة على نهاية الطبخة، والوصول إلى مرحلة الثقة في توازن المبنى، حيث يضعها على قمة المشروع، ويتأكد من توازنها، دون الإمساك بها، ودون أن ينهار المشروع بكامله تحت قدميه.
علامة ثقة يقدمها لأهل العقول النيرة في نهاية جميع مشاريعه ليدلهم على اكتمال نبوغه، وقدرته، وتميزه، وفردانيته بتوازن تلك الكبشة، التي كانت عنده تساوي كل شهادات الجامعات العالمية في العلوم والهندسة المعمارية، فكان بمجرد وضعها بتوازن فوق أي مبنى يعني تفوقه على أقرانه، بكل المعاني.
وقد لاحظت والدته في يوم لا يزول من مخيلتها اختفاء تلك الكبشة، دونما سبب ظاهر، ولو أنها شكت فيه، غير أنه ظل يخفيها عنها بين عزيز حاجاته، فلا يخرجها، إلا عند اكتمال روعة أحلامه، بتعاظم البناء، وروعة التشييد، والإعجاز الظاهر في التصاميم الفريدة، والتطبيق المحكم، على أرض الواقع، فكبر وهو يحملها معه أينما ذهب في حقيبته، لا يفرط في سرها، وكم من مرة أخرجها في وحدته، محتفلا معها في نهاية تشييد مبنى عملاق، أو جسر معلق، أو سواق ضخم.
قصته لا تنتهي عند تصاعد العجب، فقرر وحقيبته على ظهره أن يصعد أطول برج في العالم، رغبة منه الاحتفال بذلك العمل الجبار، الذي شارك في تصميمه وبنائه منذ الطوبة الأولى، بأن كان يراقبه عن كثب.
وصل إلى قمة البرج، ونظر حوله مستكشفا، قبل قيامه بحركته، المعتادة، والتي يختتم بها جميع مشاريعه، دون أن يغضب الحراسات، أو أن يستهزئ بما يفعله أحد المتسلقين فوق القمة.
أخرج كبشته من حقيبته، وقام بوضعها فوق نقطة التوازن، التي انتخبها، وكله أمل أن تنجح تجربته، وأن يطمئن كليا إلى ثبات القواعد، والأساسات، وقدرة احتمال البرج لعوامل التغيرات الطبيعية من طقس ورياح متوقعه.
وحدث ما كان يخشاه، فاهتزت الكبشة، عندما لم يفهم الحراس صنيعه، وتم القبض عليه، وتفتيش حقيبته، وتحريز كبشته، ثم انزاله من أعلى البرج، والنزول به مخفورا إلى عالم الواقع.
ابتسم بهدوء وثقة، فهذا واقعهم، الذي لا يعنيه مطلقا، وهو مصر على نهجه، وحتى لو حجزوه في أعتى السجون، سيظل يبحث عن برج أحلامه، ويتأكد من ثباته بتوازن كبشته.